يُعرِّف علماء الأحياء الطفرة بأنها التغيرات الحاصلة في المادة الوراثية، وتنقسم إلى نوعين، طفرة تلقائية تحدث عشوائياً نتيجة أخطاء في تضاعف الـDNA، وطفرة مستحدثة تحدث عندما يتعرض الـDNA لمؤثرات تسبب حدوثها.
في كرة القدم نعبر عن هوية فريق أو نادٍ ما بلفظ الـDNA، فهل ما حدث في الكرة المغربية مؤخراً يُعد طفرة تلقائية أم مستحدثة في الـDNA الخاص بها؟
يؤمن الكثيرون أن التاريخ هو الشارح المثالي لما يمكن أن يكون عليه المستقبل. بينما يرفض البعض الآخر تلك الفرضية بحكم أن لكل زمن متغيراته وقوانينه الجذرية، لكنهم جميعاً يتفقون على أن الإنجاز الاستثنائي لا يولد غالباً إلا من رحم الصراع بين القوى المختلفة، وهذا بالتحديد ما حدث في ملف الكرة المغربية.
لطالما كانت كرة القدم ضمن أولويات السلطة الحاكمة في عملية بناء الدولة القومية، تَمَثَّل ذلك في الاستراتيجية المتبناة في الترشح لاستضافة الأحداث الكروية والرياضية الكبرى، ولهذا السبب كان الاهتمام بالبنية التحتية الرياضية محل نظر المسئولين على مر السنوات.
وهو الملف الذي يشير الموقع الرسمي للفيفا بأنه تم التعامل معه بعناية شديدة من قِبل السلطات المغربية، وعلى إثره حظيت المغرب بتنظيم عدة محافل قارية وعالمية في السنوات الأخيرة، يأتي في مقدمتها بطولتا كأس الأمم الأفريقية تحت 23 عاماً، وكأس الأمم الأفريقية للسيدات 2022، وكأس العالم للأندية 2022، كما تنتظر المغرب تنظيم كأس الأمم الأفريقية 2025، والحدث الأهم والأغلى، وهو كأس العالم 2030 بالتشارك مع البرتغال وإسبانيا.
ولا يتوقف الأمر عند شرف استضافة المونديال فحسب، بل تسعى المغرب لأن يكون النهائي على أرضها، وبالتحديد على الملعب الذي يُبنى خصيصى للمونديال بالقرب من الدار البيضاء، والتي تتحدث صحيفة الآس الإسبانية بأنه سيكون الملعب الأوفر حظاً لاستضافة النهائي متفوقاً على ملعب ريال مدريد سانتياجو برنابيو، خاصةً أنه سيصبح أكبر ملعب لكرة القدم في أفريقيا وثاني أكبر ملعب في العالم، بتكلفة قد تتخطى حاجز الـ 500 مليون دولار.
لكن لا يقتصر الحكم على مشروع كروي فقط على عامل البينة التحتية، وإلا لكانت الصين وروسيا مع منشآتهما الرياضية الضخمة، وبنيتهما المهولة هما الأفضل في العالم، فما هي بقية العوامل؟ وهل نجحت فيها المغرب أيضاً أم لا؟
يشير الموقع الرسمي للفيفا إلى أن الاهتمام بالهياكل التنظيمية والبنية التحتية لم يكن ليحقق أي نجاح ما لم يكن يقدم خدماته لأفضل المواهب داخل المغرب، لذلك ظهر الحرص على استغلال الموارد البشرية بأفضل صورة، وهنا جاء دور الأكاديميات المحلية، والتي انشغلت بتشكيل جيل جديد لكرة القدم المغربية.
وعلى رأسها أكاديمية محمد السادس منذ تأسيسها عام 2009. كان الهدف من إنشاء الأكاديمية هو انتقاء المواهب من ربوع المغرب، ثم الإشراف على تطويرها فنياً وعلمياً، من خلال وضع نظام تربوي يجمع بين الرياضة والدراسة.
نتج عن تلك التجربة عدة لاعبين هم رأس مال الكرة المغربية حالياً، كان على رأسهم يوسف النصيري وعز الدين أوناحي ونايف أكرد، الذين ساهموا في إنجاز المغرب التاريخي بالوصول إلى نصف نهائي مونديال 2022 في قطر.
وتزامناً مع كل ما سبق، عمل الاتحاد المغربي على استغلال ما يُسمى بمواهب المهجر، المتواجدين في الدول الأوروبية تحديداً، وبالفعل نجحت تلك المساعي في جذب عدد كبير من اللاعبين واللاعبات، أمثال منير حدادي وإبراهيم دياز وغيرهم.
إذن يبدو أننا أمام مشروع لم يولد من قبيل الصدفة، بل تضافرت القوى السياسية والرياضية لإنجاحه، لكن كأي مشروع في الحياة يبحث عن النجاح، أنت بحاجة إلى كوادر إدارية على دراية بالخطوات التي يجب اتخاذها لضمان الاستمرارية، فإلى أي مدى يتوافر ذلك في مشروع المغرب؟
على موقعه يحلل «مركز الإحصاء الأمريكي - Atlantic Council» بأن ما حدث في كرة القدم المغربية يتجاوز حدود الإنجاز الرياضي، ووصفه بأنه ثورة في ثقافة كرة القدم، وذكر التحليل أن أحد أهم أسباب هذا النجاح هو السيد فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم منذ عام 2013.
لقجع شخصية جدلية، قد نتفق ونختلف عليها، لكن لا شك أنه جزء رئيسي في مشروع كرة القدم المغربية، وهو الرجل الأول الأقوى الآن في كرة القدم الأفريقية قاطبةً.
منذ توليه رئاسة الجامعة سعى لقجع بجانب برنامج تطوير المواهب إلى إعادة إحياء دوري كرة القدم المغربي، وكانت الخطوة الأولى التي سعى إليها هي خلق دوري تنافسي قوي، والنتيجة نراها الآن، حيث يعتبر الدوري المحلي المغربي (بوتولا) أحد أقوى دوريات كرة القدم في أفريقيا والعالم العربي، وكذا الحال بالنسبة لديربي الرجاء والوداد.
في ورقة بحثية نشرها موقع Tandfonline، ذُكر أن تعزيز الهوية الاجتماعية في كرة القدم المغربية وبالتحديد في الدوريات المحلية، كان سبباً رئيساً في نجاح المشروع، ولعل الفضل الأكبر في ذلك يعود لرؤية لقجع.
لم تقتصر رؤية لقجع على الكرة المحلية، وتطوير المواهب فقط، بل يُنسب له الفضل في مشروع احتراف اللاعبين، والبحث عن مواهب المهجر، والنتيجة كانت بخلاف رابع مونديال قطر، برونزية أولمبياد باريس 2024، والتتويج ببطولة الأمم الأفريقية تحت 23عاماً، بالإضافة للنجاحات على مستوى كرة القدم النسائية وكرة الصالات، وعلى مستوى الأندية.
وهو ما يجزم بأن ما حدث في كرة القدم المغربية هو طفرة مستحدثة، وليست تلقائية كما قد يحدث في بعض الدول، التي قد تخدمها الظروف في تواجد حقبة تاريخية من اللاعبين، ثم لا تلبث أن تعود إلى التخبط ما أن تنتهي دورة حياة تلك الطفرة.
ويتبقى الآن سؤال وحيد: هل صب نجاح لعبة كرة القدم في صالح الشعب المغربي؟
باتت كرة القدم صناعة واضحة في المغرب، تُدر أرباحاً، سواءً من بيع حقوق الدوري في السنوات الأخيرة، أو الاستثمار في تصدير المواهب لأفريقيا وأوروبا حسب موقع Theconversation.
لكن الحديث عن كرة القدم وكيفية تأثيرها على الشعب المغربي لم يكن إيجابياً على طول الطريق، في فترات ما قبل تحقيق الإنجازات الأخيرة كانت هناك ردود فعل غاضبة دوماً، ومطالبة بضرورة الإفصاح عن حجم الصرف الحقيقي من لقجع ورجاله على اللعبة، وضرورة مراقبة هذه العملية.
ومع الحديث عن صرف مبالغ باهظة على الاستعدادات لأمم أفريقيا 2025، وكأس العالم 2030، يظل هذا السؤال مطروحاً؛ لأنه لو لم يصب ذلك في صالح الشعب، فما الفائدة منه إذن؟